في خضم ما يحدث، تتجلى حقيقة مرة نعرفها منذ زمن ولكنها اليوم تفقأ العين بلا حياء: من يُهن نفسه، فلن يرف له جفن إن أهانه الآخرون، وما حدث من دولة الإمارات تجاه دبلوماسيينا في دبي، ليس سوى انعكاس مباشر لمقدار ما وصلنا إليه من استهانة بكرامتنا وسيادتنا.
في مقال سابق تساءلنا: من المستفيد من تصدير الذهب إلى الإمارات؟ واليوم، نعيد السؤال للمرة المليون: من هو الأقوى من مصلحة هذا الشعب؟ من هو الذي لا يرى بأسًا في أن يخرج ذهب بلادنا بلا حسيب ولا رقيب؟ هل إذا توقف الصادر سيموت الشعب جوعًا؟ أم أن الموت الحقيقي هو هذا الذي نراه كل يوم: موت بالكبرياء، موت بالكرامة، موت في صمت سيارات الإمارات ومرتزقتها الذين يجوبون بلادنا كأنها بلا صاحب؟
الأدهى والأمرّ، أننا أمام سلوك رسمي سوداني يفتقر لأدنى درجات الكرامة السياسية. هناك ازدواجية فاضحة، وسلوك غريب لا تفسير له. كيف لا يصدر رد حاسم يليق بما جرى؟ هل هذه الدولة “ماسكه علينا زلة” كما يُقال؟ وإذا افترضنا – افتراضاً جدلياً – أن هناك فعلاً “زلة”، فهل هذه الزلة تستدعي إذلال دولة بأكملها؟ هل تستدعي تركيع شعب بأسره؟ أليس في هذا خنوع مذل وانكسار مرفوض لا يليق بدولة لها جيش وشعب وتاريخ؟
الذهب الذي يخرج، لا ندري أين يذهب، ولا كيف يُباع، ولا من يبيعه. كل شيء يتم خلف الستار، وكأن الأمر شأناً خاصاً لا يحق لأحد مساءلة القائمين عليه. فهل نحن دولة تُدار بشفافية ومسؤولية؟ أم سوق مفتوح يتاجر فيه “اللوبي” الذي يسيّر قرارات البلاد بعيدًا عن مصلحة الجيش والشعب؟
ما حدث في دبي ليس مجرد خرق لاتفاقية فيينا، بل هو إهانة متعمدة لدولة يفترض أن لها سيادة. احتجاز الدبلوماسيين، تفتيشهم، التجسس على هواتفهم وأجهزتهم، كل ذلك يكشف مدى الانحدار الذي سمحنا به، حين ربطنا مصيرنا ومصير مواردنا وكرامتنا بدولة أثبتت مرارًا أن لا احترام لها لنا ولا لمواطنينا.
الجيش ينتصر على الأرض، لكن انتصاراته تنهزم في دهاليز السياسة، حين ترفض الدولة حتى اتخاذ أبسط موقف سياسي تجاه من يعبث بكرامة مؤسساتها السيادية. فهل نحن فعلاً دولة؟ أم أننا نُدار من خارج الحدود، عبر شبكات مصالح تتقاطع فيها التجارة بالدبلوماسية، والبترول بالذهب، والكرامة بالمجاملات؟
الشعب من حقه أن يعرف، ومن حقه أن يسأل: من يقرّر؟ من يتحدث باسمه؟ ومن يخونه في الخفاء؟ لا الجيش ولا الشعب سيصمت طويلاً، فالتاريخ لا يرحم