صهيب حامد
حسناً.. َوكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فبلا شك فإن الإمارات العربية المتحدة أصبحت تمثل خطراً إستراتيجياً على السودان بفعل الإختراق الإجتماعي والسياسي والأمني والعسكري الذي قامت به في بلادنا ، إلى جانب إنتصابها كإطار تنتظم داخله قوى العداء الإستراتيجي أو المرحلي لتحقيق أهدافها في إضعاف بلادنا بالتفتيت أو الإنقسام أو نهب الثروات الوطنية. ولكن من يدٍ أخرى فيجب الاعتراف أن الإمارات لم تنفك لأكثر من عقد من الزمان تدمن التدخل في مناطق الهشاشة بالقارة الأفريقية (vulnerable areas). وإذا ما أردنا جديّاً مواجهة الحجم الحقيقي للإمارات ودورها منذ استدارة هذه الألفية ، فعلينا الاعتراف كذلك بخطرها ودورها الجيوسياسي كقوة شبه إمبريالية (Sub—imperial power) وذلك وفق تعريف المفكر السياسي الأمريكي اللاتيني (روي ماوري ماريني). قدّم ماريني مفهوم القوة شبه الإمبريالية في ستينيات القرن الماضي ليصف أدوار بعض القوى مركّزاً على البرازيل في أمريكا اللاتينية ومن ثم على أدوار كل من مصر وإسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ولكن يبدو أن تغيرات جيوسياسية ذات دلالة كبرى قد حدثت في العقدين الماضيين قد أحدثت تطورات كبيرة في الشرق الأوسط فبرزت منظومات جيوسياسية جديدة منها (الإمارات) كقوة شبه إمبريالية وفق الإطار النظري الذي إجترحه روي ماوري ماريني. فالقوة شبه الإمبريالية من منظور (ماريني) هي أمة تابعة لقوة عظمى (الولايات المتحدة في حالة الإمارات) ولكنها في إقليم أبعد نسبياً تنخرط فيه نيابه عن هذه القوة في ممارسات إمبريالية لا تتم دون رضي هذه القوة العظمى. كذلك فهذه القوة شبة الإمبريالية يجب أن تحاكي ممارسة القوة الإمبريالية في تركيز ومراكمة رأس المال عبر إحتكاراتها الوطنية (National Monopolies) كما هو حادث في حالات شركة أبوظبي الوطنية للنفط (ADNOC) ومجموعة موانئ دبي (DP world) وشركات صندوق الثروة السيادي الإماراتي ( ADQ ومبادلة وIHC) ومجموعة موانئ ابو ظبي القابضة. فإلى جانب الدوافع شبه الإمبريالية الإماراتية لتعظيم أرباح ومراكمة ثروات مجموعاتها القابضة أعلاه المملوكة بشكل أساسي لآل (نهيان) وآل (مكتوم) ، كذلك للإمارات هواجس إستراتيجية تقع في قلب دورها المنوط بها للحفاظ على مصالحها وكذلك للقيام بمهام بالوكالة (Proxy missions) كقوة شبه إمبراطورية نيابة عن القوة الإمبريالية الأساسية (الولايات المتحدة الأمريكية) وأحيانا حليفتها بالمنطقة (إسرائيل).
لقد دشّنت الإمارات دخولها أفريقيا أولاً عبر القوة الناعمة ، حيث إستثمرت ٦٠ مليار دولار هناك خلال العقد الأخير (٧ مليار دولار في السودان) مما وضعها كرابع أكبر مستثمر في القارة متقدمة على كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية!!. إن الإستثمار الأساسي للإمارات في أفريقيا هو السيطرة على موانئ القارة وهو ما نجحت فيه بشكل كبير إلى جانب الإستثمار في موانئ الحاويات الجافة (٦٠ ميناء جاف في أفريقيا) وكذلك الإستثمار في الأراضي الزراعية والنقل (Logistics) والبنية التحتية (Infrastructures) والنفظ ومشروعات التنقيب عن الكوبالت والليثيوم والذهب والماس ، حيث يسود شعور كثيف بأن الإمارات قد شجعت تهريب الذهب فراكمت خلال عقد من الزمان ما يوازي ٢٥٠٠ طن من المعدن النفيس عبر التهريب وغسيل الأموال بكل من أفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية والسودان والنيجر ومالي مما أدى لدمار كبير في إقتصادات هذه الدول. إذن فالإمارات وعبر هذه الأنشطة تقضم الجزء الأساسي من إقتصادات الدول الأفريقية!!. ولكن كل ذلك لا يمثل سوى الطعم فقط أو مقدمة للمطامع الإستراتيجية للإمارات في القارة. فالإمارات وخلال العقد الفائت أولا إهتمت بالسيطرة على الساحل الغربي لمضيق باب المندب بعد تدخلها (إلى جانب السعودية) في الحرب على اليمن.فلقد أحكمت قبضتها أولا على الحكومة الفدرالية في مقديشو ومنها تسرب النفوذ الإماراتي لإقليم (بونتلاند) مستهدفة مدينة بوصاصو (Bosaso) حيث تمركزت قوة إماراتية في (مطار بوصاصو ) تحت غطاء مكافحة القرصنة البحرية أولاً ومن ثم محاربة الإرهاب بعد ذلك فسيطرت الإمارات على الحكومة المحلية ذات الإرتباط الضعيف مع الحكومة الفدرالية في مقديشو. مطار بوصاصو هو ما يعتقد أنه مركز إدارة الطيران المسير الذي ضرب بورتسودان ومدن شرق السودان في أوائل هذا الشهر (مايو) ٢٠٢٥م. كذلك وبإتفاق طويل الأجل أنشأت الإمارات قاعدة عسكرية في ميناء بربرة بصوماليلاند وهو ما حدى بالإمارات للتفكير في تطوير هذا الميناء بديلا عن ميناء دوراليه بجيبوتي بعد الخلاف الجيبوتي الإماراتي حول عقد تشغيل هذا الميناء الأخير كي تحاول الإمارات معاقبة الحكومة الجيبوتية بإقناع أثيوبيا بالتحول من إستخدام ميناء دوراليه بجيبوتي كمنفذ بحري إلى الإتفاق مع حكومة دولة صوماليلاند لإستئجار ٢٠ كيلو متر بحري (Lease purchase ) بمدينة بربرة الساحلية وتحويلها لميناء أثيوبي مقابل الاعتراف الكامل بها وذلك بالشراكة مع موانئ دبي حيث يتوقع أن تكون الحركة السنوية له ١.٥ مليون طن. وبالطبع فكل هذا النشاط الإماراتي في هذا المكان من القرن الأفريقي كان أولاً بحافز مراقبة أنشطة الحوثيين على الشاطئ المقابل للبحر الأحمر ومن بعد ذلك تحول لدعم مليشيا الدعم السريع سواء عبر ميناء بربرة بصوماليلاند (Somaliland ) أو مطار بوصاصو ببونتلاند (Puntland ). كذلك فلقد إخترقت الإمارات (الدولة الأثيوبية) عبر المساهمة في تمويل سد النهضة والوساطة لباقات تمويلية دولية أخرى.يقول استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة د. سعيد ندا أن إهتمام الإمارات بإثيوبيا خصوصا بعد زيارة الشيخ محمد بن زايد لاديس أبابا في ٨ أغسطس ٢٠٢٣م هدفها إلى جانب تقوية الوجود الإماراتي على الجانب الغربي لباب المندب بعد الإتفاق السعودي الإيراني (The detente) هو أولاً الاحتفاظ بطريق إلى السودان ثم ثانياً التأثير على القرار المصري ، إذ يعتقد د. سعيد ندا أن السودان ركناً محورياً في الجيواستراتيجية الإماراتية، فالسودان يحقق مصالح إقتصادية كبرى للإمارات ، فمن ناحية تشترك الإمارات في الإستحواذ على مناجم الذهب السودانية عبر قوات الدعم السريع حتى في ظل هذه الحرب وكذلك تستثمر الإمارات في السودان حوالي ٧ مليار دولار ، ثم يمكن للإمارات تطويق جنوب مصر من السودان وهي قضية بالغة الأهمية بالنسبة للإمارات حسب كلمات د. سعيد ندا أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.
وعلى الأهمية الإستراتيجية لقواعد الإمارات بالقرن الأفريقي ولكنها كذلك تحتفظ بمواقع جيوستراتيجية بالغة الأهمية بكل من تشاد وأفريقيا الوسطى وبشكل أقل بدولة جنوب السودان. إن الأهمية القصوى لكل من تشاد وأفريقيا الوسطى في الإستراتيجية الإماراتية تنبع من أهميتهما في حصار السودان ودعم خطوط الإمداد لقوات الدعم السريع ، إذ إستطاعت الإمارات الانتفاع من مطار أم جرس في إمداد قوات الدعم السريع وربط الدعم القادم من ليبيا (خليفة حفتر) ، أما في أفريقيا الوسطى فإلى جانب تحالف الإمارات مع الحكومة الأفريقية الوسطى (The CAR) بخصوص التنقيب علي الماس والذهب بالشراكة مع جماعة فاغنر الروسية (قبل مقتل مؤسس فاغنر يفغيني بريكوجيني) كذلك فإن للإمارات إهتمام كبير بإقليم (فاكاغا) الشمالي المحادد لكل من تشاد والسودان حيث أقامت الإمارات مطاراً صغيرا بهذا الإقليم كإحتياطي لمطار ام جرس الذي صار مزعجاً للإماراتيين بفعل معارضة بعض الزغاوة التشاديين. لقد أقام الإماراتيون تحالفاً مريباً مع نور الدين آدم رئيس جبهة نهوض أفريقيا الوسطى (FPRC) إنطلاقاً من مدينة بيراو بشمال أفريقيا الوسطى حيث صارت هذه الجماعة مصدراً لتفريخ المرتزقة لصالح الحرب في السودان لصالح مليشيا الدعم السريع السودانية. دولة جنوب السودان بالطبع تستجيب لرغبات الإمارات بلا مخاوف على مستوى النخبة السياسية العليا الحاكمة ولكنها (أي جنوب السودان) دولة مزعجة جداً على صعيد الإستقرار الداخلي وهو ما سوف يدخل الإمارات في تعقيدات لا تحبزها حسب تحليل د. سعيد ندا في تحليله للاستراتيجية الإماراتية في القارة الأفريقية.
يتفق كافة المراقبين الدوليين أن الهدف الاستراتيجي للإمارات هو استخدام المواطئ القوية (Strong holds) في القارة الأفريقية لخنق ومحاصرة السودان ليسقط لقمة سائغة تستطيع على أساسه أن تبني الإمارات امبراطوريتها الأفريقية. فالسودان الذي يجاور ٨ دول غاية في الأهمية القصوى (منها مصر طبعاً) ويحوي ٢٠٠ مليون فدان صالحة للزراعة وينتج أكثر من ١٠٠ طن من الذهب في العام ويخترقه أطول أنهار العالم ويُعتقد أنه يتوفر على أكبر ثروة من النفط والغاز على البحر الأحمر فضلاً عن السيطرة على أكثر من ٧٣٠ كيلو متر من سواحل البحر الأحمر ( The Red Sea Coastlines) كي تصبح فعلا القوة الإمبراطورية التي لا طاقة لأحد بها بعد اليوم في المنطقة بما في ذلك السعودية!!.
قبل الختام ، يعتقد الكثيرون أن السودان لا سبيل له سوى الإتفاق مع الإمارات بخصوص تقاسم هذه الثروات وهو خيال لا يتوفر الا للاغبياء ، فالإمارات كقوة شبه إمبريالية لا ترضى سوى بكل الكيكة خصوصاً وأن وجود جيش قوي سوف يدعم موقف مصر الجيوسياسي ، والإمارات ليس لها من هدف رئيسي من هذه الحرب إلّا تركيع الدولة المصرية كإحدى الرهانات الإستراتيجية ، وما المطالبة بالتسوية والتفاوض إلّا في سبيل تليين العداء الشعبي وتمييع موقف الجيش السوداني ومن ثم الإنقضاض على كامل الكيكة بلا شريك. في الحلقة القادمة سوف نرى ما إذا ما زال النظام العالمي الذي أتاح كل ذلك لم يزل بكامل عافيته أم أنّ أي تراجع في النظام العالمي الحالي والقوة الإمبريالية المسيطرة خلاله سوف يخلق تأرجحاً مخلاً بالنظام الدولي بله بالإمارات كقوة شبه امبريالية في أفريقيا!!؟.. نواصل.