في خضم الغبار المثار علي هامش ما جرى في نيروبي بدأ البعض يستدعي النموذج الليبي ويعقد مقارنات يمكن وصفها بالسطحية تأدبا ، واستوقفني تصريح للهادي ادريس عن انشاء بنك مركزي جديد وعملة جديدة ونفس التصريح سبقه به محمد الحسن التعايشي ودعوني بهذه المناسبة استعرض ملامح مختصرة من تجربة انقسام البنك المركزي الليبي من 2014 حتي تم اعادة توحيده في 2023 وقد سبق ايضا ان شهد انقسام قصير خلال 2011 ، أولا حكومة شرق ليبيا لم تقم بانشاء بنك مركزي جديد موازي بل ماحدث هو انقسام رأسي في مؤسسة البنك المركزي نفسها حيث قام برلمان طبرق بتسمية نائب المحافظ علي الحبري كمحافظ واصبح يدير فرع البنك المركزي في بنغازي كبنك مركزي موازي للفرع الرئيسي في طرابلس ،لم يجرؤ فرع بنغازي طوال سنوات الانقسام علي اصدار عملة جديدة بل استمر في التعامل بنفس الدينار الليبي مجبرا حيث كانت هذه وسيلته الوحيدة الممكنة للاستدانة وتمويل موازنته، حيث بلغ اجمالي العجز الممول باستدانة داخلية خلال الفترة 2015-2018 ، مبلغ 56 مليار دينار ليبي (40 مليار دولار) وكان هذا التمويل من مصدرين الاول هو الجمهور عبر اصدار سندات خزانة(بالدينار الليبي) وشكلت نحو 60% اي ما يعادل 25 مليار دولار والمصدر الاخر استدانة البنك المركزي فرع بنغازي من البنوك التجارية في حدود 15 مليار دولار حيث ظلت البنوك تعمل في الشرق والغرب وتتعامل مع نظام محاسبي يدوي في فرع بنغازي بعد ان قام فرع طرابلس بفصلهم من نظام التسويات الانية الالكتروني ،قام فرع بنغازي وتحت الضغط الشديد بمحاولة سداد المديونية المتراكمة اعلاه بطباعة فئات من الدينار الليبي وضخها ولكن لم يتجاوز اجمالي ما طبعه ال 15% من اجمالي الدين المذكور فهو يدرك جيدا ان هذا اجراء يهدد بنسف الارضية التي يستند عليها في الحصول علي القسم الاكبر من الاموال( وجود عملة موحدة ونظام مصرفي تجاري مستمر في تقديم خدمته في الشرق والغرب) المشهد برمته في ليبيا كان مشهد انقسام رأسي في مؤسسات الدولة والبنك المركزي هنا مثال فقط ، حتى جيش حفتر هو في اساسه ضباط وجنود من الجيش الليبي والمؤسسة الليبية العسكرية بل ان حكومة طرابلس عبر البنك المركزي استمرت في دفع رواتب عناصر الامن والشرطة المعينين قبل 2014 والتابعين لحكومة حفتر ،بالعودة لحديث التعايشي والهادي ادريس عن انشاء نظام مالي ومصرفي وبنك مركزي وعملة جديدة،وباخذ حيثيات انه لا يوجد بنك واحد او حتى صرافة ظلت تعمل في مناطق الدعم السريع لاسباب امنية نقول لهم بالتوفيق وحظ سعيد ،ببساطة لان ما حصل في السودان ليس انقسام رأسي للدولة في السودان صباح التمرد انسحب فورا ال400 ضابط المنتدبين للدعم السريع والتحقوا بالقوات المسلحة ، بنك السودان المركزي فورا واصل العمل من 12 فرع خارج مناطق سيطرة المليشيا من اصل 17 بينما جميع منسوبي الفروع الخمسة سرعان ما التحقوا بفروع البنك العاملة دون ان يتخلف واحد، في الحقيقة الالتزام المؤسسي الصارم في بنك السودان المركزي خاصة خلال اشهر الحرب الاولى وحتى الان يجب ان يوثق. وسبق ان كتبت عنه في يوليو 2023 ،ما حدث في السودان هو دولة في مواجهة لا دولة لا انقسام رأسي للمؤسسات وسلم لي علي النموذج الليبي.في الوقت الذي يطلق فيه انصاف السياسيين في نيروبي الاحاديث في الهواء فأن هناك المئات بل الالاف في داخل جهاز الدولة “دولة 56” قضوا سنين عددا من الممارسة واللائي دربتهم، ابناء مهنتهم وصنعتهم وبالطبع ابناء دولتهم قبل كل شي، لا يعرفون فهلوة السياسة ولا ينتمون لاحزابها ، لديهم اطلاع بما يدور في واقع مهنتهم محليا وما يدور فيها اقليميا ودوليا ولديهم صبر وجلد علي قراءة التقارير الطويلة المملة والرتيبة ،من اراد الاطلاع اكثر على النموذج الليبي فيما يلي القطاع المالي ولا يتمتع بجلد وصبر موظفي الدواوين الحكومية لقراءة تقارير طويلة رتيبة هناك حلقات من ستة اجزاء مسجلة مع محافظ البنك الموازي في بنغازي علي الحبري يجدها في يوتيوب ، لن تجد فيها ارقام ونسب من قبيل ما ورد بعاليه ولكن ستعطيك صورة تقربك للارض وتنزلك من سماء التخيلات المتمثلة في حديث الجماعة اياهم.
كتب : مصعب عوض محمد خير