النقود تتحرك بشكل دائري ولكن ليس بين المواطنين والتجار فحسب بل هناك قلب ومركز لهذه الدورة شبيه جدا بدور القلب في الدورة الدموية الا وهي المؤسسات المالية ( البنوك والبنك المركزي ) حيث يتم ضخ هذه الاموال منها ثم تعود اليها وتضخها من جديد وهكذا دواليك حتي المصطلح الانجليزي للعملة في التداول هو currency in circulation يعطيك تصور طبيعة الدوران لهذه النقود.
بدون هذه المؤسسات المالية والمصرفية لا يمكنك توقع استمرار دوران النقود بالظبط كما انك لا تتصور استمرار الدورة الدموية بعد توقف القلب .
في عام 2014 سقطت صنعاء العاصمة في يد الحوثيين لتنتقل الحكومة المعترف بها لعدن في الجنوب سيناريو مشابه لما حدث في اول الحرب في السودان التي سقطت عاصمتها في يد الجنجويد وانتقلت الحكومة لبتورسودان. وفي نفس العام 2014 انقسمت ليبيا بين شرق تحت سيطرة حفتر وغرب تحت سيطرة حكومة معترف بها في العاصمة طرابلس ، وتقاسما ايضا فروع البنك المركزي في بنغازي. وطرابلس وفروع البنوك التجارية في سيناريو مشابه لما الت اليه الاحوال بعد استعادة العاصمة من قبل الدولة السودانية. حيث لا تزال خمسة فروع تتبع للبنك المركزي في مناطق سيطرة المتمردين بجانب مقار البنوك التجارية في تلك المناطق.
اعلاه حاولنا ايجاد اوجه الشبه ولكن في الواقع المتمردين في السودان لا تتشابه افعالهم وتصرفاتهم مع اي مليشيا او قوة تمردت علي الدولة او حاولت ابتلاعها ، ففي كل من اليمن وليبيا ظلت افرع البنك المركزي والبنوك التجارية تعمل في الشقين. شق سيطرة الحكومة وشق سيطرة المتمردين علي الدولة اما في السودان فمنذ اللحظة الاولي لم يستطيع بنك واحد او صرافة او اي مقدم خدمة مالية العمل ولو ليوم واحد فقط ، فهؤلاء الهمج هجمو علي البنوك ونهبوها ولا يوجد اي نظام ضبط وربط لديهم يسمح باعادة تشغيلها دون نهبها.
في اليمن بعد دخول الحوثيين صنعاء سيطرو علي البنك المركزي وكل المؤسسات المالية فيها وحافظوا علي استمرارية عملها ووظفوها كجزء من مؤسسات الدولة الجديدة التي انشأوها بشكل موازي للحكومة المعترف بها حيث استمر بالعمل عديد البنوك كبنك سبأ وبنك اليمن والكويت وبنك اليمن والبحرين وبنك اليمن الدولي وبنك وبنك CAC وبنك اليمن والخليج وعدد اخر من البنوك بالاضافة للبنك المركزي .
في ليبيا لم يختلف السيناريو كثيرا حيث حافظت قوات حفتر علي استمرارية العمل في البنك المركزي فرع بنغازي واعلنته بنك مركزي موازي واستمرت عدد من البنوك التجارية بالعمل في بنغازي والبيضاء ومدن الشرق مثل المصرف التجاري الوطني ومصرف التجارة والتنمية مصرف الوحدة ومصرف الصحاري وغيرها من البنوك .
في الحالتين في ليبيا واليمن استمرت العملة الوطنية سارية ومعترف بها في الشقين مع وجود خلاف حول بعض الفئات ، في السودان ايضا استمرت حتي الان العملة الوطنية هي المبرئة للذمة والوسيلة الوحيدة للتبادل في كامل التراب السوداني .
هناك فارق اخر بدون تحيز اظهرت الدولة السودانية ممثلة في بنكها المركزي وقطاعها المصرفي كفاءة اعلي من الحالة الليبية واليمنية في استمرارية العمل والحفاظ علي التشغيل والنظام في وضع معقد للغاية حيث تحلت بمرونة عالية وهناك عشرات القصص التي لم تروى بعد.
كل ما اوردته بعاليه يهدف لتوضيح الفرق الجوهري في الحالة السودانية التي برزت كاستثناء وهو انه منذ انطلاق الرصاصة الاولى لم تستطيع مؤسسة مالية واحدة من فتح ابوابها في منطقة تحت سيطرة المليشيا ولم يستطع موظف واحد من الذهاب الي اي من تلك المقرات ، وفروع البنك المركزي بما فيها الرئاسة وفرع الخرطوم وفرع مدني وفرع نيالا وفرع الضعين وفرع الفاشر وفرع زالنجي وفرع الجنينة لم تعمل ليوم واحد في منطقة سيطرت عليها المليشيا في حين عادت فروع بنك السودان للعمل في الخرطوم ومدني عقب استعادتها من قبل الجيش وعادت معها فروع البنوك التجارية للعمل ايضا .
الفكرة التي اوضحتها في المقدمة هي السبب في ظاهرة شح الكاش في مناطق المليشيا لان النقود حتما ستكمل دورتها وتجد طريقها للبنوك ولكن ما يذهب لا يعود مثله لان هذا العضو ( مناطق سيطرة المليشيا) شبه مبتور ولا تصله الاوردة والشرايين الرئيسية ويتغذي من شعيرات فقط حيث لا منافذ لمؤسسات مالية ، هذا هو ما يحدث بشكل طبيعي وليس بسبب مؤامرة او فشل استخباراتي كما يردد ويتساءل في بلاهة عدد من ابواقهم هذه الايام ،هذا الامر يرفع تكلفة المعاملات بشكل غير مسبوق ويحدث شلل في الدورة الاقتصادية ، ماهي الحلول ؟ لا توجد حلول ! لا يمكنك ادارة الفراغ ، الفراغ لا ينتج حلولا .ربنا يلطف بالسودانيين البسطاء المغلوبين علي امرهم في تلك المناطق ويعجل بفرجهم بوصول الدولة لهم وتحريرهم ، هذا هو الخلاص الوحيد .