دكتور محمد الزين ، أوسلو
تقدّم استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في نوفمبر 2025 رؤية شاملة تعكس تحوّلاً واضحاً في طريقة فهم الولايات المتحدة لمصالحها القومية وأدوات قوتها وتفاعلها مع العالم. وبالنظر إلى مضمون الوثيقة، يظهر أنها تمثّل قطيعة منهجية مع مقاربات ما بعد الحرب الباردة، وتعيد صياغة الأولويات وفق منطق (أمريكا أولا)ً، مع تركيز كبير على إعادة تعريف السيادة، وإعادة توزيع الأعباء، وتصحيح مسار العولمة، وتعظيم قوة الولايات المتحدة الاقتصادية والتكنولوجية.
حيث تبدأ الوثيقة بتشخيصٍ نقدي لسياسات العقود الثلاثة الماضية، معتبرة أن استراتيجيات الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة انحرفت عن جوهر المصلحة القومية عبر توسيع غير واقعي لنطاق الالتزامات العالمية،وكذلك الاعتماد المفرط على المؤسسات الدولية ، ومن جانب اخر تراجع القاعدة الصناعية الأمريكية، والسماح بانتقال الثقل الاقتصادي نحو الصين. واخيرا التوسع في التدخلات العسكرية طويلة الأمد. مما أضعفت القوة الأمريكية بدلاً من تعزيزها، وتطلّبت إعادة ضبط جذرية وفق التحليل الوارد في الوثيقة . وهنا يبرز الدور المركزي الذي تنسبه الوثيقة لإدارة ترامب في تصحيح المسار واستعادة مبدأ( السلام عبر القوة).
تستند إستراتيجية الامن القومي الامريكي على مبادئ محورية أهمها: تعريف ضيّق وواضح للمصلحة القومية بالتركيز على ما يمسّ الأمن المباشر، الاقتصاد، والسيادة، مع الابتعاد عن المشاريع الأيديولوجية العابرة للحدود. كما اعتبرت أن تحقيق السلام عبر القوة، وذلك ببناء قوة عسكرية واقتصادية كفيلة بردع الخصوم وإقناع الحلفاء. بالاضافة الى الواقعية المرنة وهى تجنّب فرض نماذج سياسية على الدول الأخرى. ايضا اعتمدت الاستراتيجية على مبدأ الأمة قبل العولمة بتأكيد مركزية السيادة الوطنية والسياج ضد المؤسسات متعدية السيادة. ومن جانب آخر انتهاء عصر الهجرة الجماعية و اعتبار أمن الحدود جزءاً من الأمن القومي. كذلك استندت الاستراتيجية على مبدأ أن الاقتصاد أساس الأمن بإعادة التصنيع، تأمين التوريد، والاعتماد على الطاقة التقليدية.
من جانب آخر تحدّد الوثيقة أهدافاً واضحة على المستوى الداخلي، مثل: تعزيز متانة الاقتصاد والقاعدة الصناعية،تطوير البنية التحتية الوطنية، بناء جيش أكثر فاعلية وتقدماً تكنولوجياً،تحقيق الاكتفاء في الطاقة ودعم الصادرات، واستعادة “الصحة الثقافية والروحية للمجتمع الأمريكي. أما على المستوى الدولي: ضمان استقرار نصف الكرة الغربي (كندا و المكسيك و امريكا الجنوبية واللاتينية و الكاريبي… )، ومنع النفوذ الخارجي فيه، ومواجهة الممارسات الاقتصادية التخريبية للصين، ومنع ظهور قوة مهيمنة في الشرق الأوسط، مع الحفاظ على أمن أوروبا مع الضغط لتقاسم الأعباء، وكذلك تعزيز الهيمنة الأمريكية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة كـ الذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا.هذه الأهداف تكشف أن الاستراتيجية تعتمد على المزج بين الواقعية السياسية والنهج الاقتصادي مع طموح لاستعادة الهيمنة المادية والتكنولوجية.
ما ذكر اعلاه يتطلب ادوات لتنفيذه، لذا تُشير الوثيقة إلى أدوات متنوعة داخلية وخارجية، منها الأدوات الاقتصادية، مثل إعادة بناء التصنيع عبر سياسات “إعادة التوطين” تقييد التجارة غير المتوازنة، و إنشاء شراكات تجارية مبنية على المصالح، وليس العولمة الليبرالية، مع تعزيز الدولار كعملة احتياط عالمية. وكذلك الأدوات العسكرية ، فتتمثل في التركيز على الردع النووي وتطوير )القبة الذهبية) الدفاعية. وإعادة هيكلة الإنفاق الدفاعي وتوسيع القاعدة الصناعية العسكرية.الضغط على الحلفاء لرفع إنفاقهم الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي. ايضا الأدوات التكنولوجية، فتتمثل في مضاعفة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والفضاء، وحماية الملكية الفكرية من الخصوم، وخاصة الصين. ومن جانب آخر الأدوات الدبلوماسية، ومقصود بها استخدام الدبلوماسية الرئاسية المباشرة كأداة محورية، والدفع باتجاه تسويات إقليمية سريعة تعزز الاستقرار.
كيف ترى استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الامريكية العالم إقليمياً؟ أشارت الاستراتيجية اولا لنصف الكرة الغربي ، وهو إعادة إحياء عقيدة مونرو ضد أي نفوذ صيني أو روسي، بدعم أنظمة قادرة على ضبط الهجرة والجريمة المنظمة، واستخدام القوة ضد الكارتلات إذا لزم الأمر. أما آسيا ( المنافسة الكبرى) ، و آسيا هي مركز الصراع الجيو-اقتصادي للقرن، والاستراتيجية تتعامل معها بناءً على تحقيق التوازن الاقتصادي ضد الصين، لا الحرب المباشرة، وكذلك تعزيز شبكة التحالفات (الهند، اليابان، أستراليا، الفلبين) و تعزيز الردع حول تايوان مع الحفاظ على “الغموض الاستراتيجي” بشأن موقف الولايات المتحدة من الاستقلال . كما ركزت الاستراتيجية على أوروبا والامن، والمقاربة تجاه أوروبا غير مسبوقة، حيث انتقاد الاستراتيجية البيروقراطية الأوروبية وسياسات الهجرة، و كذلك التشكيك في مستقبل بعض الأنظمة السياسية، وإعادة صياغة العلاقة مع روسيا عبر تسوية سريعة في أوكرانيا، ومن جانب آخر دعم القوى السياسية الصاعدة في أوروبا، هذا يشير لتحول من التركيز الأمني التقليدي إلى التركيز الثقافي-المدني.
وعن الشرق الأوسط طرحت الاستراتيجية رؤية جديدة وهى من العبء إلى الشراكة، بمعنى أن الاستراتيجية وصفت الشرق الأوسط بأنه لم يعد مصدر تهديد كما في العقود السابقة، و أصبح الان ساحة للاستثمارات والتكنولوجيا، ويجب الانتقال من الانخراط العسكري إلى الدبلوماسية الإقليمية وإدارة التحالفات، مع تأكيد على أهمية أمن إسرائيل، و استمرار منع إيران من الحصول على سلاح نووي، و ضرورة تطوير الاتفاقيات الإبراهيمية. وفي خاتمة اقاليم استراتيجية الامن القومي للولايات المتحدة الامريكية كانت أفريقيا، ورؤية التحول من المساعدات إلى الاستثمار، ويعني ذلك استبدال نموذج المساعدات بنموذج الاستثمار، و الاستفادة من موارد أفريقيا وقطاع الطاقة والمواد الاستراتيجية، وكذلك احتواء التمدد الصيني والروسي بوسائل اقتصادية ودبلوماسية.
عليه و وفقا لما ذكره اعلاه، تعكس استراتيجية الامن القومي للولايات المتحدة الامريكية تحولاً بنيوياً في تفكيرها ، وخاصة في إعادة تعريف القيادة الأمريكية، حيث أشارات أن القيادة ليست عبر ضمان الاستقرار العالمي، بل عبر حماية مركزية القوة الأمريكية داخلياً وخارجياً. وطالبت الاستراتيجية بتقليل الالتزامات الدولية رغم الاحتفاظ بنفوذ عالمي، وتدعو الاستراتيجية إلى عالم متعدد المراكز تقوده الدول القوية لا المؤسسات. ومن جانب آخر صعود الواقعية الاقتصادية من خلال مفهوم أن الاقتصاد هو الساحة الرئيسية للمنافسة، وليس الحروب الساخنة. وعليه أهمية تقليص الثقل التقليدي للشرق الأوسط وأوروبا، للتحول نحو آسيا والأمريكتين ومصادر التكنولوجيا. مع أهمية اعتماد مقاربة هجينة تجمع بين القوة الصلبة وهي الردع، التصنيع، التكنولوجيا العسكرية، و القوة الناعمة وهى النفوذ الثقافي، الاصطفافات السياسية، وكذلك القوة الاقتصاديةالمتمثلة في العقوبات، الطاقة. كما نشير لاهمية ما ذكرته الاستراتيجية في الصدام مع نموذج العولمة التقليدي، إذ تعلن الاستراتيجية انتهاء نموذج التجارة الحرة ونقل المصانع وتقويض الطبقة الوسطى، وتصوغ بديلاً قومياً صناعياً.
واخيرا ، نلإحظ أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 تُعدّ من أكثر الوثائق وضوحاً وتماسكاً في تحديد الاتجاه العالمي للولايات المتحدة، فهي تعبّر عن حقبة جديدة تتجه فيها واشنطن نحو التركيز على الداخل قبل الخارج، و تسليح الاقتصاد، وتقليص الالتزامات العسكرية، ومنافسة الصين كهدف مركزي. وبذلك، فإن الاستراتيجية لا تعكس مجرد رؤية أمنية، بل مشروعاً كاملاً لإعادة تشكيل الدور الأمريكي في النظام الدولي لعقود قادمة.
