ما الذي حدث في لندن؟
عُقد في لندن مؤتمر دولي حول السودان الأسبوع الماضي، بمشاركة ممثلين من نحو 20 دولة ومنظمة، من بينها (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الاتحاد الأوروبي)، بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية.أهداف المؤتمر المعلنةأولاً: حشد الدعم الإنساني وتقديم مساعدات عاجلة لمواجهة الأزمة الإنسانية المتفاقمة في السودان، حيث يحتاج 25 مليون سوداني إلى مساعدات غذائية وصحية، ونزح أكثر من 13 مليون شخص داخليًا وخارجيًا.ثانياً: تنسيق الجهود الدولية لتوحيد المبادرات المتعددة (منبر جدة، خارطة الطريق الأفريقية، قرارات الأمم المتحدة)، وتأسيس عملية سياسية موحدة بقيادة مدنية.ثالثاً: الدفع نحو وقف إطلاق النار، والسعي إلى تشكيل مجموعة اتصال دولية بقيادة الاتحاد الأفريقي لتسهيل المفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.رابعاً: إنشاء مجموعة اتصال دولية حول السودان، في محاولة لتكرار تجربة ليبيا عام 2011، والتي أدت إلى الإطاحة بنظام القذافي.ملامح الفشل الدبلوماسيفشل الغرض الدبلوماسي: لم يحقق المؤتمر أهدافه بسبب عدم التوصل إلى اتفاق لتشكيل مجموعة اتصال دولية، وعدم اتفاق دول عربية، في مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، على شكل البيان الختامي، مما يعكس وجود انقسامات إقليمية حول الموقف السياسي من حرب السودان.غياب الأطراف السودانية: لم تتم دعوة الحكومة السودانية، ولا قوات الدعم السريع، إلى المؤتمر، مما أثار انتقادات حول جدوى الاجتماع وشرعيته.ما وراء الأجندة السياسيةتزامن المؤتمر مع إعلان قائد قوات الدعم السريع، حميدتي، عن قرب موعد تشكيل حكومة موازية. في الواقع، كانت الأجندة الخفية تجريد الشرعية من الحكومة السودانية عبر تشكيل مجموعة الاتصال الدولية، والاعتراف بتحالف الحرية والتغيير (تقدم/صمود) كممثل وحيد شرعي للشعب السوداني، وإلغاء مخرجات اتفاق جدة في مايو 2023، لتمكين قوات الدعم السريع من التهرب من التزاماتها وتأسيس منبر جديد يقدم رؤية جديدة للحل السياسي.رغم أن المؤتمر لم يعلن صراحة عن نيته دعم حكومة بديلة، إلا أن المؤشرات السياسية التي سبقته وأعقبته كانت تشير إلى محاولة دبلوماسية غير معلنة لتكوين حكومة منفى يقودها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.أبرز المؤشراتتصريحات بارزة لقيادات تحالف الحرية والتغيير/تقدم تدعو المجتمع الدولي إلى التدخل، والسعي لخلق بديل سياسي عبر الدعم الخارجي.مطالبة مريم الصادق في حوار مع شبكة بي بي سي بتدخل المجتمع الدولي وفرض حل سياسي في السودان لمنعه من الانزلاق نحو التفكك، ووصفه بأنه أصبح بؤرة لتصدير المشاكل.دعوة القيادي خالد عمر يوسف المجتمع الدولي إلى تبني “عملية سياسية دولية تقود إلى انتقال مدني حقيقي”، والتأكيد على ضرورة اضطلاعه بدور أكثر حسمًا.المهم أن الصريحين وضعا مصداقية تقدم من تكوين حكومة موازية أو المشاركة فيها على المحك.مشاركة ممثلين عن تحالف تقدم في المؤتمر، مع غياب تام للحكومة السودانية وقوات الدعم السريع، ومشاركة صمود الموالي للدعم السريع.تعزيز فرضية أن المؤتمر حاول تقديم تقدم بديلا عن الحكومة، وهو نفس السيناريو الذي حدث في ليبيا عندما تم الاعتراف بـ”المجلس الانتقالي الليبي” كممثل وحيد في مؤتمر مشابه.تجاهل الانتهاكاتقبيل المؤتمر، وقعت مجازر مروعة، أبرزها هجوم على مخيم زمزم للنازحين في الفاشر، مما أسفر عن مقتل مئات المدنيين، بينهم طاقم طبي كامل.فرض الحل السياسيالعمل على إيقاف التقدم الميداني للقوات المسلحة السودانية، وفي حال نجاح المؤتمر، إعادة إحياء مشروع مناطق إنسانية آمنة أو مسارات آمنة في دارفور، مع محاولات سابقة لفرض منطقة حظر الطيران، وهو ما حاول المجتمع الدولي فرضه في أكتوبر ونوفمبر العام الماضي في ولايات الجزيرة وسنار والخرطوم وكردفان ودارفور، ورفضته الحكومة السودانية حتى في ظل تراجعها الميداني. المحصلة أن مؤتمر لندن حول السودان فشل في تحقيق تقدم ملموس.ماذا تريد بريطانيا؟تسعى بريطانيا لإنشاء “مجموعة اتصال دولية” بشأن السودان بغرض الدفع نحو عملية سياسية بقيادة مدنية بواسطة تحالف الحرية والتغيير (تقدم/صمود)، وتغييب الجيش السوداني (كممثل للحكومة). عن المؤتمر يعزز الشكوك حول عزله دبلوماسياً، وفي العام الماضي كشفت صحيفة “الغارديان” عن اجتماعات بين وزارة الدفاع البريطاني وقوات الدعم السريع في لندن، هذا الاجتماع اعتراف ضمني بوجود مستقبلي لقوات الدعم السريع.لكي تخفي الانحياز لقوات الدعم السريع، لم تتم دعوة الحكومة السودانية ولا قوات الدعم السريع لحضور المؤتمر، ولكنها دعت الجناح السياسي له.المبادرة البريطانية شبيهة جدًا من حيث الشكل بـ”مجموعة الاتصال بشأن ليبيا 2011″، وكانت دعوات لتوحيد الجهود الدولية عبر قيادة أفريقية، لكن بإشراف أممي، أحد أهداف المؤتمر، وهي تمهيد لفرض وصاية دولية على السودان.هل هناك نية لتجريد الجيش من الشرعية؟نعم، توجد مؤشرات، وذلك بسبب تمسك المجتمع الدولي بسردية حرب الطرفين أو حرب الجنرالين. على سبيل المثال:إحاطة الأمم المتحدة مؤخرًا تشير إلى تحميل الجيش وقوات الدعم السريع “مسؤولية مشتركة” عن الكارثة الإنسانية في السودان، وتجنب الإشارة إلى الفاعل الرئيسي (قوات الدعم السريع)، والذي حين ينهزم عسكريًا أمام الجيش، ويخرج من المدن والولايات التي احتلها، يبادر السودانيون إليها بعد سيطرة الجيش عليها.ظلت بريطانيا وفرنسا في تصريحاتهما الرسمية تطالبان بـ”نقل السلطة للمدنيين”، والذي ظل يردد منذ 2019، ولكن دون تحديد آلية واضحة لنقلها ولمن؟ ومن هو الطرف المدني السياسي في السودان؟المقصود هو نقلها لمجموعة سياسية تخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الجيوسياسية والأمنية، أو أي مجموعة تتبنى برنامج السوق الحر، وتوافق على تنفيذ برامج صندوق النقد الدولي، والمجموعة التي يريدونها هي مجموعة تقدم.رغم ذلك ظل المجتمع الدولي يحاول جمع تقدم والكتلة الديمقراطية (حركات سلام جوبا) وأجنحة من نظام الحركة الإسلامية وأحزاب الحوار الوطني بقيادة مبارك الفاضل والتيجاني السيسي عبر الآلية الأفريقية، فيما يسمى حوار سوداني سوداني لا يستثني أحد، والسبب لاتفاق هذه القوى مع تقدم على شكل البرنامج الاقتصادي، وتبني علاقات مع الغرب.لذلك يتم تجاهل أصحاب المصلحة من الشعب السوداني (قوى الثورة، لجان المقاومة، نازحين، مهنيين)، وأي مجموعة تنادي باستقلال القرار الوطني وترفض تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي المتمثل في رفع الدعم عن المحروقات والسلع الأساسية والخدمات هي مرفوضة.موقف الحكومة السودانية (الجيش)عبّرت وزارة الخارجية السودانية عن رفضها للمؤتمر واعتبرته تدخلًا خارجيًا مرفوضًا، ووصفت أي محاولة لتكوين لجنة اتصال دولية من دون السودان بأنها انتهاك للسيادة.فشل تأسيس لجنة الاتصال الدوليةإن فشل هدف المؤتمر بقيام لجنة اتصال دولية يعود إلى أن الجيش يتمتع بدعم من عدة دول إقليمية (مصر، السعودية)، وعدم وجود توافق دولي وإقليمي كما حدث في ليبيا 2011، إذ كان هناك توافق دولي وعربي وشبه أفريقي على الإطاحة بنظام القذافي.السمعة السيئة لقوات الجنجويد (الدعم السريع) منذ 2003، والانتهاكات الموثقة التي ظلت ترتكبها، يضعف فرص فرض نفسها كطرف سياسي مشروع دوليًا، أو تسويقها من أية دولة غربية، ولا خيار أمامها إلا عبر القوة، وهو ما نجحت فيه خلال الحرب حتى 26 سبتمبر 2024.شكوى السودان ضد الإمارات: ورقة ضغط دبلوماسيةهناك صلة مباشرة ووثيقة لشكوى السودان ضد الإمارات في محكمة العدل الدولية بمؤتمر لندن، وارتباطها سياسيًا معًا، وتعكس وجود صراع دبلوماسي محموم بين الخرطوم وأبو ظبي مع واشنطن ولندن وباريس الداعمين لقوات الدعم السريع سياسيًا.تحرك السودان القانوني ضد الإمارات في محكمة العدل الدولية يعزز موقف الجيش السوداني كسلطة شرعية يواجه قوة عسكرية تمردت عليه، وحرب عدوان خارجي مسنود من الخارج، واعتباره تدخلاً في شؤونه الداخلية.في أبريل 2025، قدم السودان شكوى إلى محكمة العدل الدولية، اتهم فيها الإمارات بدعم قوات الدعم السريع بالمال والسلاح، ومساعدتها بتهريب السلاح عبر دول الجوار (تشاد، أفريقيا الوسطى، ليبيا)، وتقديم أدلة على الشحنات الجوية وتسجيلات لمكالمات.هذا الدعم ساهم في ارتكاب جرائم حرب في دارفور والخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأبيض وكردفان، مما خلق أزمة إنسانية في السودان، مع وجود احتمالية وقوع مجاعة في دارفور.ما وراء الأجندة السياسية للمؤتمرتعتبر بريطانيا حليفًا لدولة الإمارات، وعقدها للمؤتمر دون دعوة الحكومة السودانية، وتبنيها لتشكيل “مجموعة اتصال دولية”، يعني تجريد الإطار القانوني لشكوى حكومة السودان في المحكمة الدولية.لأن الشكوى من الناحية القانونية وضعت الإمارات في موقف دفاعي دولي وسمعتها على المحك، وهزت صورتها أمام العالم، والتحقيقات الصحفية، وآخرها فرنسا 24، كشفت عن وجود دعم بالسلاح والمال والمرتزقة الكولومبيين في المعارك الأخيرة بمدينة الفاشر المحاصرة، ولذلك تجاهل مؤتمر لندن عمدًا مناقشة دور الجهات الداعمة لقوات الدعم السريع، بقيادة الإمارات، في تأجيج النزاع.تجاهل الشكوى يهدف إلى إعادة توجيه النقاش نحو وقف إطلاق النار فقط، دون بحث جذور أسباب الحرب، لأن الشكوى هي بمثابة ورقة ضغط قوية من الحكومة السودانية.وأن تعطيل الشكوى بواسطة المؤتمر هو محاولة مضادة من المجتمع الدولي، وتقليص نفوذ الحكومة السودانية (الأمر الواقع) دبلوماسيًا، وتفادي أي إحراج للإمارات.منذ 15 أبريل، يدور صراع داخلي وخارجي على طبيعة الحرب؟ ومن يدعم الحرب؟ ومن أطلق الرصاصة الأولى؟، ووضع الشرعية والمصداقية الدولية على المحك.ما وراء الصراعفي المحصلة، لا يبدو أن ما يجري من تحركات دبلوماسية دولية منفصل عن التطورات الميدانية على الأرض، والتي باتت تتقدم فيها القوات المسلحة السودانية.المعركة اليوم لم تعد فقط بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بل أصبحت معركة تعريف الأزمة: هل هي حرب أهلية داخلية فقط؟ أم تمرد داخلي مدعوم خارجيًا عبر مليشيا تعمل بالوكالة؟صراع الشرعية والسيادةوهل المسار السياسي الدولي المطروح ينطلق من احترام سيادة السودان، أم يسعى لإعادة تشكيله عبر أدوات دبلوماسية؟في ظل غياب التوافق الدولي وانقسام المواقف الإقليمية، يبقى السودان ساحة لصراع متعدد الأبعاد.ما جرى في لندن لم يكن محاولة إنقاذ إنسانية فحسب، بل هو إحدى المعارك الدولية الكبرى لتحديد من يملك شرعية تمثيل السودان ومن يحق له صياغة مستقبله.
