هناك قاعدة قديمة في الفقه تقول “الضرورات تبيح المحظورات” وهي تعني أن ما هو محظور في الأصل قد يصبح مباحاً عند وجود حاجة ضرورية إليه ، هذه القاعدة تذكرني بما نعيشه هذه الأيام فبعد تجربة حمدوك وشلته المارقة وفضيحة عمالتهم الرخيصة لدويلة الشر جعل الشعب السوداني يحظرون على حكومتهم حملة الجوازات الأجنبية ويخافون من تقلدهم المناصب العليا والحساسة خاصة في ظل هذه الظروف التي تعيشها البلاد.
فأصبح الشعب يَشمئِز عندما يسمع كلمة بروفسيور أو دكتور عمل بالخارج وله شهادات وبحوث بالأطنان وتقلد مناصب أممية مهمة وعمل في منظمات أمريكية وأوروبية….الخ، هذه السرديات أصبحت تصيب الشعب بالغثيان فما فعله حمدوك ورفاقه ومازالوا يفعلونه أصاب الشعب السوداني بفوبيا الكفاءات الخارجية التي جعلته يرفض وجودهم في المشهد السياسي بأى شكل من الأشكال وهو محق في ذلك فالمؤمن لا يلدغ من جُحر الكفاءات مرتين.
نما في وجدان كل سوداني عاشر الحرب وذاق مرارة مآسيها حظراً معنوياً لحملة الجوازات الغربية فأصبح الشعب يكفر بالكفاءات التي تُستجلب من الخارج لتتقلد مناصب حساسة وهم لم يعيشوا وسط الناس ولا يعلمون معاناتهم لم يتجولوا في الطرقات ويعاصروا خبايا وظروف البسطاء؛ لم تقهرهم الحرب ولم يتجرعوا ألآمها.
هذا الحظر المعنوي دفع بكثير من السودانيين رفض تكليف البروفيسور كامل إدريس لرئاسة مجلس الوزراء وهذا الرفض لم يكن وليد الصدفة فكثيرون يعتقدون أنه قد يصبح حمدوك “بروماكس” أو حمدوك “النسخة الجديدة” ولهم مبرراتهم الخاصة في ذلك ولكن في إعتقادي علينا النظر مجدداً في هذه المبررات ومن زوايا أخرى.
في إعتقادي هناك ضرورة عاجلة لفك هذا الحظر المعنوي الذي نسجناه في عقولنا تجاه السودانيين أصحاب الخبرات الخارجية ، لابد من إعادة النظر في نظرتنا تجاهم فليس كل من عمل بالأمم المتحدة هو عميل وليس كل من شغل مناصب في المنظمات الأممية والدولية وخبِر أضابيرها يمكن أن يخون وطنه ، هناك أمثلة كثيرة لسودانيين وطنيين شرفاء يُكِنون حباً عميقاً وتقديراً كبيراً للسودان ويتمنون أن يجدوا الفرصة السانحة لخدمته والإهتمام بمصالحه والدفاع عنه.
هناك ضرورة ملحة تلزمنا بالإصطفاف صفاً واحداً وراء جيشنا الذي يحقق في المعجزات في ميادين القتال ،وتحتم علينا التمعن في وضع مؤسسات الدولة ومسؤوليتها تجاه هذا الجيش العظيم وتجاه شعبها الصابر ، والنظر في ماتعانيه هذه المؤسسات من تخبط وضعف في دولاب العمل التنفيذي والإداري ،هذه الضرورة تجعلنا ندعم أى خطوة من شأنها الإسراع بملء الفراغات الدستورية وسد الفجوات الإدارية فالسلم الإداري للدولة ظل طوال عامين يعمل بأقل من ربع طاقته لعدم وجود رئيس مجلس وزراء بكامل الصلاحيات يدير شؤون الوزارات ويتحكم في قرارات الوزراء لصالح الدولة وشعبها.
هناك أيضاً ضرورات تحتم على قيادة الدولة المضي قدماً في تشكيل حكومة كاملة برئاسة شخصية مدنية مستقلة تحظى بقبول وتوافق وطني،هذا ما أقرته خارطة الطريق التي قدمتها الحكومة للأمم المتحدة في مارس المنصرم ،فجاء إختيار البروفيسور كامل إدريس متماشياً مع خارطة الطريق ومتزامناً مع وصول الملف السوداني لطاولة النقاش الدولية والإقليمية التي طالما تحججت بعدم شرعية الحكومة وفقدانها لحسها المدني طوال فترة الحرب.
لذلك كان لزاماً على مجلس السيادة تشكيل حكومة برئاسة بروفسيور ليس فقط شخصية سودانية بل هو قامة أممية تولى إدارة أكبر مؤسسة تتبع للأمم المتحدة “المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)” لدورتين ويتحدث أربع لغات عالمية بطلاقة مما يزيد من فرص تواصله مع المجتمع الدولي الذى لابد للسودان أن يندمج فيه ويعود لمكانته المؤثرة بين الدول.
علينا التفكير مجدداً في دعم إختيار البروفيسور كامل إدريس لهذا المنصب ليس من باب الدفاع عن الرجل فأنا لا أعرفه جيداً ولكن من باب الإستفادة الكبرى من أبناء وبنات الشعب السوداني الذين يملكون سيرة زاخرة بالإنجاز والعطاء ، فنحن أمام رجل له علاقات دولية كثيرة وخبرات إدارية جمّة والأهم من ذلك له تاريخ خالٍ من النعرات الحزبية الضيقة فهو لم ينتمي طوال تاريخه لفئة أو كيان أو حزب ، وربما لأول مرة منذ سنوات يُعيّن رئيس وزراء لا يمثل كياناً سياسياً.
فالرجل بحكم تاريخه الطويل وخبرته العميقة له العديد من الإسهامات الوطنية وأغلب من عاشروه أقروا بنزاهته وعبقريته الفذة في مجالات عمله وتخصصه، لذلك لايمكننا تجاهل هذه المسيرة الزاخرة ومقارنتها بآخرين فشلوا في مهامهم ولم يكونوا بمستوى التحدي وأستقالوا في عز إحتياج الشعب لهم بسبب مزاجات زوجاتهم الشخصية فتركوا الشعب الذي علق عليهم الآمال في مهب الريح ، ليس هناك منطق يجعلنا نقارن التجربة الفاشلة لرئيس الوزراء السابق بتجربة بيضاء ناصعة لم تختبر التحديات بعد.
أخيراً هذه الأمة التى كتبت تاريخها بدماء شهداءها وتضحيات أبناءها وبناتها وصمودهم أمام المؤمرات والدسائس لا يمكن لأحد أن يحدد مصيرها أو يقف في وجه تطلعاتها ونهضتها ، هذا الشعب الصابر البطل هو الذي يقرر ماذا يريد وكيف يُحكم ؟ إرادة الشعب تظل دائماً أقوي من أى حكومة أو نظام فالحكومات تذهب والأنظمة تسقط ولكن يظل الشعب السوداني شامخاً لا تهزه الرياح ولا تحنيه الأمواج.
اللهم برداًوسلاماً_
على_السودان
