طلب مني أخي العزيز والمقرب إلى قلبي جداً أن أتحدث عن المآسي التي عاشها السودانيون خلال الحرب ، وذلك لإعتقاده أن ما مّر به الشعب السوداني هو أكبر مأساة إنسانية حقيقية حدثت في العالم في الآونة الأخيرة وتم تجاهلها بصورة مُلفتة للنظر ،
فنظرت مطولاً إلى حالي وحال أسرتنا الكبيرة وتساءلت في نفسي كيف يمكنني أن أحكى عن هول ما حدث منذ أن غادر معظمنا الخرطوم وبقي آخرون فيها ، من أين لى بهذا الكم الهائل من الجُمل والكلمات المُفجعة التي تصف ماحدث؟ لم أجد العزاء والقدرة على الكتابة إلا عندما ذكر لي أن فجعتنا الإنسانية كشعب سوداني أكبر من أى مصيبة سياسية أو عسكرية حلت علينا خلال هذه الحرب؟ فلابد أن يحكي كل سوداني وسودانية عن تجربته الخاصة في هذه الحرب!
فوجدت فعلاً أن حالنا يغني عن السؤال فبِتنا جميعاً نتشارك ألم الفقد وألم الفراق للأحياء قبل الأموات ؛ فهاهو يهاتفني وأنا أُهاتفه على مدار اليوم وقد يكون في اليوم أكثر من مرة ولكن مازالت فجعة فِراقنا وعدم لُقيانا وإجتماعنا في هذه الدنيا تزيدنا ألماً ونواحاً وتوقظ في دواخلنا سؤالٌ مُلح هل سنجتمع مجدداً أم لا؟؟ هل يا ترى سوف أجتمع بأبي وإخواني الأحباء مرة أخرى؟؟
وبذكر اللقاء مازالت كلمات خالتي فتحية تصدح في أُذني وهى ترسل لنا رسالة صوتية تحكي فيها عن حالهم في منطقة الحاج يوسف وهم صابرين صامدين طوال عامين على غزو الجنجويد لمنطقتهم وحصارهم فيها وعن المعاناة والمآسي والفظائع التي عاشوها وشاهدوها تُرتكب أمام أعينهم من هؤلاء الأوباش، إلى أن تم تحريرهم على يد الجيش فتنفسوا الصعداء أخيراً ورُدت روحهم إلى أجسادهم بعد أن أصبحوا أجساد بلا روح وأناس بلا أمل فقدوا أعز ما يملكونه بسبب المليشيا ومرتزقتها ؛ لكنهم صبروا ورابطوا هناك صارعوا الموت كما يصارعه الوحوش وتمسكوا بالحياة إلى أن انتصرت هى وأبناءها الأبطال ، لكنها مازالت تتسأءل هل ستجتمع مع إخوتها وأبناءهم في بيت الأسرة الكبير من جديد؟؟
وهنا مشهد مفجع آخر إنه الشهيد ياسر عثمان أيقونة الكرم والشهامة في أُسرتنا ، هذا الفتي الأسمر الذي قاتل الجنجويد في صمت لافت دون أن يرفع في وجههم السلاح قاتلهم بالإيمان بالحب وبالصبر هو يقيم التكايا ويأوي الضعفاء ويعين المساكين على نوائب الدهر ؛ لكن الجنجويد غدروه في لحظة خاطفة فسرقوا منه شبابه يتموا أبناءه ورملوا زوجته ، نعم أنه ياسر إبن خال والدتي فُجعنا بخبر إستشهاده والجيش على بعد خطوات من تحرير الخرطوم كان خبر إستشهاده كالصاعقة نزلت على قلوبنا المُهترية من كثرة الألم والفقدان فزادتها جحيماً ، هاهى أمه وأسرته وكل من عاشر طيبته وضحكاته الجميلة مازالوا يتجرعون ألم فقدانه بصبر وصدق فهو على الرغم من فاجعة غدره إلا أنه أُستشهد في أيام رمضان المباركة فنحسبه شهيداً تُرفرف روحه في أعالى الجنان.
مشهد آخر عن شهيدة المرض نازك إبنة بنت خالة والدتي ، نعم نازك شهيدة لأنها توفت إثر عِلة مُؤلمة ومرضٍ عُضال لم يمُهلها الكثير. نازك التي لاقت ربها وهي نازحة بين القرى والحِلال مع أطفالها وزوجها وهي التي كانت بلسم العائلة وروح الفُكاهة فيها كانت تخلقُ البسمة والفرح لكل من يعرفها أنها الطيبة الخلوقة التى تقف على خدمة الآخرين حتى لو كانت ضيفة لديهم ،تُجبرك على حبها وحب روحها اللطيفة. فارقت نازك الحياة وهي فى أحدى المستشفيات لعدم تمكن الأطباء من تشخيص حالتها جيداً ! لم يعرفوا ماذا أصابها !ولم يفهم أحد ما الذي جرى لها وهي كانت قبل الحرب بكامل صحتها وعافيتها ولكنه اليوم سارع لإختطافها من أبناءها لتُخلد روحها شهيدة عند بارئها.
هناك كم هائل من الموت والمآسي لا يمكن أن يَسعه مقال أو حتى كتاب ؛ فأبن عمي الصغير عبد المنعم عبد الكريم إستشهد غرقاً في بحر شندي بعد أن نزحت أسرته من جحيم الجنجويد في الصالحة ، زوج خالتي الحنونة نجاة عم صالح الرجل الصالح يفارقنا من مصر دون وداع ودون أن يَقُص علىّ آخر نكتة كما عودني دائما ، وهاهو إبن حاجة عائشة رفيقتنا المقربة محمد العربي الشاب الخلوق المهذب يرحل بعيداً عن دنيانا بعد أن خطفه الجنجويد وعذبوه ثم إغتالوه في أطراف سوبا .
تلك نماذج قليلة عن من فقدناهم من أهلنا وجيراننا أثناء هذه الحرب اللعينة وأنا أكيدة أن هناك المزيد من الموت والضحايا لا يعرف عنهم أحد لم ولن أستطيع أن أحصيهم ولكن أتساءل من سيحصيهم ؟؟
إذا لم يتكلم السودانيون عن ماحدث لهم فمن سيتكلم ؟ لن يسمع العالم أنين قلوبنا ولن تعرف الأجيال القادمة ما عشناه إلا إذا خرجنا من حالة اللاوعي العقابي الذي نفرضه على عقولنا ؛ لذلك أدعوا كل من أعرفهم أن أكتبوا ودونوا مأساتكم التي حصلت لكم أُخرجوا من صمتكم ليُخلد التاريخ نضالكم وصبركم على الجنجويد وعلى مافعلوه بالسودان والسودانيين ، أُكتبوا لتكون شهادة لكم يوم القيامة أمام هؤلاء المجرمون.
اللهم برداًوسلاماًعلى السودان